فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وجملة {ليجمعنّكم إلى يوم القيامة} واقعة موقع النتيجة من الدليل والمسبّب من السبب، فإنّه لمّا أبطلت أهلية أصنامهم للإلهية ومحّضت وحدانية الله بالإلهية بطلت إحالتهم البعث بشبهة تفّرق أجزاء الأجساد أو انعدامها.
ولام القسم ونون التوكيد أفادا تحقيق الوعيد.
والمراد بالجمع استقصاء متفرّق جميع الناس أفرادًا وأجزاءًا متفرّقة.
وتعديته بـ {إلى} لتضمينه معنى السوق.
وقد تقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى: {الله لا إله إلاّ هو ليجمعنّكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} في سورة [النساء 87].
وضمير الخطاب في قوله: {ليجمعنّكم} مراد به خصوص المحجوجين من المشركين، لأنّهم المقصود من هذا القول من أوله؛ فيكون نِذارة لهم وتهديدًا وجوابًا عن أقلّ ما يحتمل من سؤال ينشأ عن قوله: {كتب على نفسه الرحمة} كما تقدّم. اهـ.

.قال الفخر:

إن قوله: {قُل لّمَن مَّا في السموات والأرض قُل لِلَّهِ} كلام ورد على لفظ الغيبة.
وقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} كلام ورد على سبيل المخاطبة.
والمقصود منه التأكيد في التهديد، كأنه قيل: لما علمتم أن كل ما في السموات والأرض لله وملكه، وقد علمتم أن الملك الحكيم لا يهمل أمر رعيته ولا يجوز في حكمته أن يسوي بين المطيع والعاصي وبين المشتغل بالخدمة والمعرض عنها، فهلا علمتم أنه يقيم القيامة ويحضر الخلائق ويحاسبهم في الكل؟. اهـ.
قال الفخر:
في هذه الآية قولان:
الأول: أن قوله: {الذين} موضعه نصب على البدل من الضمير في قوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} والمعنى ليجمعن هؤلاء المشركين الذين خسروا أنفسهم وهو قول الأخفش.
والثاني: وهو قول الزجاج، أن قوله: {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} رفع بالابتداء، وقوله: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} خبره، لأن قوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} مشتمل على الكل، على الذين خسروا أنفسهم وعلى غيرهم والفاء في قوله: {فَهُمْ} يفيد معنى الشرط والجزاء، كقولهم: الذي يكرمني فله درهم، لأن الدرهم وجب بالاكرام فكان الإكرام شرطًا والدرهم جزاء.
فإن قيل: ظاهر اللفظ يدل على أن خسرانهم سبب لعدم إيمانهم، والأمر على العكس.
قلنا: هذا يدل على أن سبق القضاء بالخسران والخذلان، هو الذي حملهم على الامتناع من الإيمان، وذلك عين مذهب أهل السنّة. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {الذين خسروا أنفسهم} أي: بالشرك، {فهم لا يؤمنون} لِما سبق فيهم من القضاء، وقال ابن قتيبة: قوله: {الذين خسروا أنفسهم} مردود إلى قوله: {كيف كان عاقبة المكذبين} الذين خسروا. اهـ.

.قال أبو حيان:

{الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون}.
اختلف في إعراب {الذين} فقال الأخفش: هو بدل من ضمير الخطاب في {ليجمعنكم} وردّه المبرد بأن البدل من ضمير الخطاب لا يجوز، كما لا يجوز مررت بك زيد وردّ رد المبرد ابن عطية.
فقال: ما في الآية مخالف للمثال لأن الفائدة في البدل مترتبة من الثاني، وإذا قلت مررت بك زيد فلا فائدة في الثاني، وقوله: {ليجمعنكم} يصلح لمخاطبة الناس كافة فيفيدنا إبدال {الذين} من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب وخصوا على جهة الوعيد، ويجيء هذا بدل البعض من الكل، انتهى.
وما ذكره ابن عطية في هذا الردّ ليس بجيد، لأنه إذا جعلنا {ليجمعنكم} يصلح لمخاطبة الناس كافة كان {الذين} بدل بعض من كل، ويحتاج إذ ذاك إلى ضمير ويقدر {الذين خسروا أنفسهم} منهم وقوله فيفيدنا إبدال {الذين} من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب، وخصوا على جهة الوعيد وهذا يقتضي أن يكون بدل كل من كل فتناقض أول كلامه مع آخره لأنه من حيث الصلاحية، يكون بدل بعض من كل ومن حيث اختصاص الخطاب بهم يكون بدل كل من كل، والمبدل منه متكلم أو مخاطب في جوازه خلاف مذهب الكوفيين والأخفش، أنه يجوز ومذهب جمهور البصريين أنه لا يجوز، وهذا إذا لم يكن البدل يفيد معنى التوكيد فإنه إذ ذاك يجوز، وهذا كله مقرر في علم النحو.
وقال الزجاج: {الذين} مرفوع على الابتداء والخبر قوله: {فهم لا يؤمنون} ودخلت الفاء لما تضمن المبتدأ من معنى الشرط كأنه قيل: من يخسر نفسه فهو لا يؤمن، ومن ذهب إلى البدل جعل الفاء عاطفة جملة على جملة وأجاز الزمخشري أن يكون {الذين} منصوبًا على الذمّ أي: أريد {الذين خسروا أنفسهم}؛ انتهى وتقديره بأريد ليس بجيد إنما يقدر النحاة المنصوب على الذم بأذم وأبعد من ذهب إلى أن موضع {الذين} جر نعتًا للمكذبين أو بدلًا منهم.
وقال الزمخشري فإن قلت: كيف جعل عدم إيمانهم مسببًا عن خسرهم والأمر بالعكس؟
قلت: معناه {الذين خسروا أنفسهم} في علم الله لاختيارهم الكفر {فهم لا يؤمنون}؛ انتهى.
وفيه دسيسة الاعتزال بقوله: لاختيارهم الكفر. اهـ.

.قال القرطبي:

{الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ابتداء وخبر، قاله الزجاج، وهو أجود ما قيل فيه؛ تقول: الذي يكرمني فله درهم، فالفاء تتضمن معنى الشرط والجزاء.
وقال الأخفش: إن شئت كان الذين في موضع نصب على البدل من الكاف والميم في {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} أي ليجمعن المشركين الذي خسروا أنفسهم؛ وأنكره المبرّد وزعم أنه خطأ؛ لأنه لا يبدل من المخاطب ولا من المخاطِب لا يُقال: مررت بك زيدٍ ولا مررت بي زيدٍ لأن هذا لا يُشكل فيُبيَّن.
قال القُتَبِيّ: يجوز أن يكون الذين جزاء على البدل من المكذّبين الذين تقدّم ذكرهم.
أو على النعت لهم.
وقيل: الذين نداء مفرد. اهـ.

.قال أبو السعود:

وقوله تعالى: {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} أي بتضييع رأسِ مالهم وهو الفطرةُ الأصليةُ والعقلُ السليم والاستعدادُ القريبُ الحاصلُ من مشاهدة الرسول عليه الصلاة والسلام، واستماعِ الوحْي وغيرِ ذلك من آثار الرحمة، في موضع النصْب أو الرفعِ على الذم أي أعني الذين الخ، أو هو مبتدأ والخبر قوله تعالى: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} والفاء لتضمُّن المبتدأ معنى الشرط، والإشعارُ بأن عدمَ إيمانهم بسبب خُسرانهم، فإن إبطالَ العقل باتباع الحواسِّ والوهم والانهماك في التقليد، وإغفالِ النظر أدّى بهم إلى الإصرار على الكفر، والامتناعِ من الإيمان. والجملةُ تذييلٌ مَسوقٌ من جهته تعالى لتقبيح حالهم غيرُ داخلٍ تحت الأمر. اهـ.

.قال الألوسي:

{الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} بتضييع رأس مالهم وهو الفطرة الأصلية والعقل السليم والاستعداد القريب الحاصل من مشاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم واستماع الوحي وغير ذلك من آثار الرحمة، وموضع الموصول قيل: نصب على الذم أو رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي أنتم الذين وهو نعت مقطوع ولا يلزم أن يكون كل نعت مقطوع يصح اتباعه نعتًا بل يكفي فيه معنى الوصف ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ الذي جَمَعَ مَالًا} [الهمزة: 1، 2] كيف قطع فيه {الذى} مع عدم صحة اتباعه نعتًا للنكرة فلا يرد أن القطع إنما يكون في النعت والضمير لا ينعت، وقيل: هو بدل من الضمير بدل بعض من كل بتقدير ضمير أو هو خبر مبتدأ على القطع على البدلية أيضًا ولا اختصاص للقطع بالنعت، ولعلهم إنما لم يجعلوه منصوبًا بفعل مقدر أو خبرًا لمبتدأ محذوف من غير حاجة لما ذكر لدعواهم أن مجرد التقدير لا يفيد الذم أو المدح إلا مع القطع.
واختار الأخفش البدلية، وتعقب ذلك أبو البقاء بأنه بعيد لأن ضمير المتكلم والمخاطب لا يبدل منهما لوضوحهما غاية الوضوح وغيرهما دونهما في ذلك.
وقيل: هو مبتدأ خبره {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} والفاء للدلالة على أن عدم إيمانهم وإصرارهم على الكفر مسبب عن خسرانهم فإن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان، وفي الكشاف فإن قلت: كيف يكون عدم إيمانهم مسببًا عن خسرانهم والأمر على العكس؟ قلت: معناه الذين خسروا أنفسهم في علم الله تعالى لاختيارهم الكفر فهم لا يؤمنون.
وحاصل الكلام على هذا الذين حكم الله تعالى بخسرانهم لاختيارهم الكفر فهم لا يؤمنون، والحكم بالخسران سابق على عدم الإيمان لأنه مقارن للعلم باختيار الكفر لا لحصوله بالفعل فيصح ترتب عدم الإيمان عليه من هذا الوجه، وأنت تعلم أن هذا السؤال يندفع بحمل الخسران على ما ذكرناه، ولعله أولى مما في الكشاف لما فيه من الدغدغة، والجملة كما قال غير واحد تذييل مسوق من جهته تعالى لتقبيح حالهم غير داخلة تحت الأمر.
وقيل: الظاهر على تقدير الابتداء عطف الجملة على {لاَ رَيْبَ فِيهِ} فيحتاج الفصل إلى تكلف تقدير سؤال كأنه قيل: فلم يرتاب الكافرون به؟ فأجيب بأن خسرانهم أنفسهم صار سببًا لعدم الإيمان، وجوز على ذلك التقدير كون الجملة حالية وهو كما ترى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة {الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون} الأظهر عندي أنّها متفرّعة على جملة {ليجمعنّكم إلى يوم القيامة} وأنّ الفاء من قوله: {فهم لا يؤمنون} للتفريع والسببية.
وأصل التركيب: فأنتم لا تؤمنون لأنّكم خسرتم أنفسكم في يوم القيامة؛ فعدل عن الضمير إلى الموصول لإفادة الصلة أنّهم خسروا أنفسهم بسبب عدم إيمانهم.
وجعل {الذين خسروا أنفسهم} خبرَ مبتدأ محذوف.
والتقدير: أنتم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون.
ونظم الكلام على هذا الوجه أدعى لإسماعهم، وبهذا التقدير يستغنى عن سؤال الكشاف عن صحّة ترتّب عدم الإيمان على خسران أنفسهم مع أنّ الأمر بالعكس.
وقيل: {الذين خسروا أنفسهم} مبتدأ، وجملة: {فهم لا يؤمنون} خبره، وقرن بالفاء لأنّ الموصول تضمّن معنى الشرط على نحو قوله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهنّ أربعة منكم} [النساء: 15].
وأشرب الموصول معنى الشرط ليفيد شموله كلّ من اتّصف بمضمون الصلة، ويفيد تعليق حصول مضمون جملة الخبر المنزّل منزلة جواب الشرط على حصول مضمون الصلة المنزّلة منزلة جملة الشرط، فيفيد أنّ ذلك مستمرّ الارتباط والتعليل في جميع أزمنة المستقبل التي يتحقّق فيها معنى الصلة.
فقد حصل في هذه الجملة من الخصوصيات البلاغية ما لا يوجد مثله في غير الكلام المعجز.
ومعنى: {خسروا أنفسهم} أضاعوها كما يضيّع التاجر رأس ماله، فالخسران مستعار لإضاعة ما شأنه أن يكون سبب نفع.
فمعنى {خسروا أنفسهم} عدموا فائدة الانتفاع بما ينتفع به الناس من أنفسهم وهو العقل والتفكير، فإنّه حركة النفس في المعقولات لمعرفة حقائق الأمور.
وذلك أنّهم لمّا أعرضوا عن التدبّر في صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فقد أضاعوا عن أنفسهم أنفع سبب للفوز في العاجل والآجل، فكان ذلك سبب أن لا يؤمنوا بالله والرسول واليوم الآخر.
فعدم الإيمان مسبّب عن حرمانهم الانتفاع بأفضل نافع.
ويتسبّب عن عدم الإيمان خسران آخر، وهو خسران الفوز في الدنيا بالسلامة من العذاب، وفي الآخرة بالنجاة من النار، وذلك يقال له خسران ولا يقال له خسران الأنفس.
وقد أشار إلى الخسرانين قوله تعالى: {أولئك الذين خسروا أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون لا جرم أنّهم في الآخرة هم الأخسرون} [هود: 21، 22]. اهـ.

.قال سيد قطب:

{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)}.
هذه الموجة الجديدة ذات المد العالي والإيقاع الرهيب، تجيء في أعقاب الحديث عن التكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء؛ وما ختم به هذا الحديث وما تخلله من التهديد المخيف؛ مع توجيه الأنظار والقلوب إلى الاعتبار بمصارع المكذبين المستهزئين.. كما أنها تجيء بعد موجة الافتتاح السابقة للحديث عن المكذبين؛ والتي عرضت حقيقة الألوهية في المجال الكوني العريض؛ وفي المجال الإنساني العميق. وهي كذلك تعرض حقيقة الألوهية في مجالات أخرى، بإيقاعات جديدة؛ ومع مؤثرات كذلك جديدة.. فيقع الحديث عن التكذيب بين موجة الافتتاح وهذه الموجة؛ ويبدو أمره في غاية النكارة وفي غاية البشاعة!